رحاب الجزائر / لارا زيتوني

صار الجوع هنا أقوى من الرصاص ، وأكثر قسوة من أي حصار عسكري .
في أرضٍ أنهكها الحصار والحروب، أصبح الجوع سيد الموقف .
في غزة اليوم، لا يموت الناس فقط تحت الركام أو برصاص القناصة ، بل يموتون ببطء ، بصمت موجع ، بينما العالم يتفرج .
هنا ، لم يعد الموت لحظة انفجار، بل رحلة عذاب طويلة تبدأ من معدة فارغة وعيون غائرة ، وتنتهي بجسد هزيل يختفي من الحياة بهدوء .
الأمهات يفتحن الخزائن فلا يجدن سوى الفراغ ، والآباء يعودون من الشوارع خاليي الأيدي ، يحملون لأطفالهم وعودًا لا تتحقق .
في المستشفيات، الأطفال الذين كان يمكن إنقاذهم بكوب حليب أو وجبة طعام ، أصبحوا أرقامًا في قوائم الموت .
الأطباء يقفون عاجزين، يراقبون الأرواح وهي تغادر لأن “الدواء ممنوع” و”المعابر مغلقة“.
وفي الأزقة، تتعثر خطوات الناس بجثث المباني المهدّمة، وبجثث أحلامهم التي ماتت قبلهم .
الأمم المتحدة تقول إن غزة على حافة المجاعة، لكن الحقيقة أن المجاعة هنا دخلت منذ شهور، وجلست على موائد العائلات بدل الطعام .
الخبز أصبح كنزًا، والماء الصالح للشرب صار أمنية، وعلبة الحليب للرضع حلمًا بعيد المنال .
في كل بيت، هناك حكاية مأساة .
طفل توقف نموه لأن جسده لم يجد ما يغذيه ، أم فقدت جنينها لأن جسدها أضعفه الجوع، شيخ مات لأنه لم يجد دواءً لضغطه أو قلبه.
هذه ليست أرقامًا في تقرير، هذه أرواح كانت تمشي بيننا.
الناس هنا لا يتحدثون عن الغد، بل عن كيف سيمر اليوم .
عن كيف سيقنعون أطفالهم بأن كوب ماء يساوي وجبة ، وأن النوم قد يخدع الجوع لبعض الوقت.
لكن الجوع لا ينام ، والجوع لا يرحم .
العالم يملك القدرة على كسر هذا الحصار، لكن الصمت أطول من أنين الأطفال، وأثقل من بطونهم الخاوية.
وهنا ، في فلسطين ، يموت الناس لأنهم فقط … وُلدوا في المكان الخطأ .
لكن، حتى الجوع لا يستطيع أن يقتل الإيمان.
رغم كل هذا ، تبقى غزة واقفة، يرفع أهلها رؤوسهم ، ويقولون : “لن نموت إلا واقفين، ولن نعيش إلا أحرارًا“.
أما العرب … فقد باعوا القضية قبل أن تُحاصر غزة .
اكتفوا بالمؤتمرات الفارغة والقمم الباردة، يرفعون شعارات المقاومة على المنابر، ثم يوقعون صفقات التطبيع تحت الطاولة.
تركوا فلسطين في فم الوحش، ووقفوا بعيدًا يعدّون أرباحهم، وكأن دماء الأطفال مجرد تفاصيل لا تفسد موائدهم. منهم من أغلق حدوده، ومنهم من أغلق قلبه، ومنهم من تاجر بصوت الضحية ليكسب مكاسب سياسية. حتى بات الفلسطيني يعرف أن أقرب الخناجر إلى قلبه… هي تلك التي يحملها إخوة اللغة والدم. هذه ليست خيانة فقط، بل طعنة في الظهر، وبيع لأقدس قضية بأرخص ثمن.
واليوم ، في زمن الانكسار، لا يحتاج الفلسطيني إلى عدّ أعدائه … يكفيه أن ينظر حوله ليرى كم أخًا تخلّى عنه.