إن الاحتفاء بالذكرى السبعين للثورة التحريرية تمنح إمكانية فتح ملفات المقاومة الثقافية الوطنية الجزائرية للإستراتيجية الاستعمارية الفرنسية، ممكنة جدا خاصة وأن الثورة التحريرية المباركة تحتفي بذكراها السبعين وسيكون لها من الثمرات والفوائد الكبيرة في عالم الموجات التكنولوجية الكاسحة التي تستند على المضامين الثقافية الذكية والمستهدفة للأجيال الجديدة، ومتسلحة بعبقرية النخب المتحفة والمحترفة في صناعة استراتيجيات إدارة اتجاهات المجتمعات والشعوب.
كتب ضابط الاستخبارات الفرنسي والمستشرق السكندر جولي قائلا (لا تخافوا من زاوية الشيخ الميسوم ومن الطرق الصوفية عموما والزوايا، لأن مصيرها جميعا إلى التحلل والاندثار)، وهي اللحظة التي عبرت فيها النخب الاستعمارية عن فرحتها بموت أحد العلماء الجزائريين الذين عملوا على مقاومة الإستراتيجية الاستعمارية وبأسلوب ضرب تلك الإستراتيجية في مقتل وألحق بها الكثير من العطب والخلل.
إن هذا التصريح يتعلق بلحظة عابرة عرفت فيها زاوية الشيخ الميسوم برقية (1820 ــــــ 1883)، تراجعا وتعثرا بعد وافته، وهو الرجل الذي أتعب الاستعمار الفرنسي لسنوات طويلة عبر الإستراتيجية التي أعتمدها في مقاومة الاستعمار وهي الإستراتيجية التي يمكن تسميتها (المقاومة الثقافية الناعمة)، التي سعت إلى وضع الأسس المصادمة للأهداف الاستعمارية دون اللجوء إلى الصدام المسلح.
أدرك الشيخ المسيوم برقية أن بناء (المقاومة الثقافية الناعمة) يحتاج إلى نشر العلم وبث الوعي في الأجيال الجديدة التي تحتاج إلى الرعاية والاهتمام العلمي الذي يمكنها من إدراك الأبعاد التاريخية للشخصية الوطنية، فعمل على الاستفادة من مناهج التعليم القائم انذاك وتطويرها لتناسب تلك المرحلة وتنسجم مع الأجيال التي ورثت المقاومة الوطنية المسلحة.
كما عمل الشيخ الميسوم برقية على تطوير (مؤسسة الزاوية) عبر تفعيل دورها التعليمي وتوسيع مهامها الثقافية عبر إدماج البعد التعليمي مع البعد الاجتماعي، وجعل (مؤسسة الزاوية) باعتبارها الوسيلة المتبقية في أيدي الجزائريين بعد فشل المقاومة الوطنية المسلحة، فجعل من هذه الوسيلة الأكثر في فعالية في مواجهة الإستراتيجية الاستعمارية الفرنسية.
كما سعى الشيخ الميسوم برقية إلى الاستثمار في الطاقة الروحية للطرق الصوفية ومكانتها في المجتمع الجزائري، فعندما أصبح الوريث الشرعي لزاوية سيدي عدة بن غلام الله قام بإدخال العديد من الأساليب والتقنيات التي أعادت للطرق الصوفية فعاليته الاجتماعية والثقافية التي أعادت لها الروح وسمحت لها بامتلاك قدرات الجذب الجماعي والثقة الاجتماعية.
إن المجهود الذي بذله الشيخ الميسوم برقية في إعادة تفعيل الطاقة الروحية للزوايا وإعادة هيكلة أهداف ودور مؤسسة الزوايا، يتطلب ضرورة الانتباه للمستوى الذكاء الذي تميز به هذا المجهود وما يترتب عليه من نتائج تتناسب مع العصر الذي ينتمي إليه، وهو ما يعني الاستثمار في الطاقة المهمة التي يمتلكها المجتمع الجزائري، وهي الطاقة القادرة على إغاثته بما يحتاجه في كل عصر إذا توفر المستوى الذكاء والبراعة التي تشرع في إعادة تفعيله وتحيينه.
ومن الأساليب التي اعتمدها الشيخ الميسوم برقية تعميق شبكة العلاقات الاجتماعية التي نسجها مع العائلات الفاعلة والمؤثرة في المجتمع الجزائري، والتي امتدت من تلمسان إلى العاصمة وإلى غرداية وصولا إلى سطيف، وغيرها من المناطق التي سمحت له بنشر الوعي المقاوم والثقافة الوطنية التي تستند على قواعد الدعم الاجتماعي.
ومن أجل ضمان نجاح (المقاومة الثقافية الناعمة) وتوفير المناخ المناسب لثمارها قاوم الشيخ الميسوم برقية الأساليب السياسية الاستعمارية التي سعت إلى توريطه وإدخاله في أتونها عبر الكثير من المحاولات، وأبرز ما تبين ذكاء الشيخ الميسوم في مقاومته عندما تفطن للفخ الذي نصبته له السلطات الاستعمارية عندما عرضت عليه تولى منصب إدارة مدرسة الجزائر الشرعية الرسمية، وتمكن من التملص من ذلك الفخ الذي نصب له.
إن تميز الشيخ الميسوم بن رقية لا تكمن في مقاومته للاستعمار الفرنسي ولا في المجهود التعليمي المبذول ولا في الأجيال الذي تربي على يديه وتخرج من زاويته، ولكن الملفت للانتباه والذي يجعل من الرجل متقدما على عصره هو ابتكاره للإستراتيجية (المقاومة الثقافية الناعمة)، التي اعتمدت على قواعد الذكاء والمداورة تجاه الإستراتيجية الاستعمارية الفرنسية، وهو الذي مهد الطريق لمن جاء بعده من الحركات والتنظيمات المقاومة للاستعمار.
واليوم يمكن للظروف الحالية إمكانية شروع النخب الوطنية في إعادة قراءة المجهود الثقافي الوطني المقاوم، وفك رموزه واستنتاج مواطن قوته والسعي إلى استثمارها في توفير الإجابات المنتظرة اليوم من الأجيال الجديدة التي تحتاج إلى تلك الإجابات التي تضمن بها حماية وافية لهويتها التي تتعرض لهجمات تاريخية غير مسبوقة.
كما يحسب للشيخ الميسوم برقية جراءته في إدخال الإصلاحات العميقة على مؤسسة (الدور التثقيفي للزوايا والرفع من فعاليته)، والإصلاحات التي ادخلها على تفعيل (الطاقة الاجتماعية للطرق الصوفية)، فكان الرجل يخوض معركته على جبهتين، الأولى تمثلت في إدخال الإصلاحيات الذاتية على المؤسسات والطاقات الوطنية وتفعيلها، والجبهة الثانية مقاومة الإستراتيجية الاستعمارية الفرنسية، مما يجهل الرجل الممهد الأساس وواضع أسس المقاومة الثقافة الناعمة التي استندت عليها الحركة الوطنية بداية القرن العشرين، والتي كانت ثمارها الحاضنة الأساسية للثورة التحريرية المباركة.